ريحني يا ولدي..
- رغبة الأم حين يعود إليها الابن البكر، تبثها بصوت خفيض قادم من عمق قلبها، يربت على كتفها ويميل بقبلة على يدها، وفي عينيه بحيرة من دموع خلف حاجز شيدته نصائح الأب والجد: (البكاء للنساء)، وحين يشعر بأن سد الرجولة يكاد ينهار أمام حسرة الأم، يشدها إلى الحديث عن صحتها، فتروي له عن ارتفاع الضغط الذي يهزها مثل بيت طيني قديم• تستيقظ ذاكرة يده التي تنام على كتفها، ملمس الشال القطيفة الأسود يعيده إلى ذلك الزمن البعيد يوم كان طفلاً ينام أول الليل على كتفها قبل أن تنقله إلى سريره المصنوع من جريد النخيل ، تغير الشال عشرات المرات، لكن رائحة الأم كما هي، كعطر يزداد ثباتاً بمرور السنوات.
- - ريحني يا ولدي، شوف لك بنت الحلال اللي تاخد بالها منك.
- - أنا مبسوط يا مه، صدقيني
- - عمر الوحيد ما يبقى مبسوط يا ابني، قلبي محروق عليك.
تتحسس أصابعه ملمس شال القطيفة وهو يحاول أن يهدئ من حزنها، ينظر إلى شقيقاته فيرى رقبته معلقة في حبل الذنب في عيونهن، كأنهن يقلن في صوت واحد: أنت سبب حزن الأم ومرضها، أنت الذي قهرت قلبها عليك وعلقت روحها بأحوالك المتقلبة• مشانق مدلاة في عيونهن، عتاب قاس، وأسئلة لا يعرفن لها إجابات، تجاهل نظراتهن كما يفعل دائماً، راوغ وهرب، وسألهن عن الصحة وأحوال الأزواج والأبناء، فردت كل واحدة منهن بكلام قليل، ساعتها تراءت له ثانية رقبته المعلقة في عيونهن• ينتفض قلبه خوفاً من مصيره، تنتفض روحه رعباً من حسرة أمه عليه، ماذا لو أن حزنها قضى عليها؟ ماذا لو أن وحدته رفعت ضغط دمها في ليلة سوداء فلم ينقذها طبيب المستشفى الحكومي؟ من سيغفر له؟ من سيمنحه الطمأنينة فيما تبقى له من عمر؟ إن لم يتحرر الآن فلن يتحرر أبداً• حرك يده اليمنى ببطء إلى جيب الجاكت الداخلي، بدا وكأنه محام يقف أمام قضاة متجهمين وجاهزين لإصدار الحكم بالإعدام، وكان هو المحامي والمتهم، فما الذي سيخرجه من جيب الجاكت؟ دليل براءة يسقط عنه الذنب، ويفك من حول رقبته حبل المشنقة في عيون أخواته؟ أم أنها حركة يد لمحام فاشل يريد إضاعة الوقت وإلهاء القضاة عن قرارهم المتوقع. وببطء أيضاً يسحب يده بصورة بحجم الكف، صورة ألقى هو أولاً نظرة عليها مع ابتسامة فرح طفولي، ومع قبلة على رأس الأم وضع الصورة في يدها، أمسكت بها الأم وسحبت نصف جسدها لأعلى قليلاً فوضع خلف ظهرها وسادة ولف ذراعه حول كتفيها، وشاركها النظر إلى المرأة التي تبتسم في الصورة، تبدد الحزن من على وجه الأم بفعل توقع مفرح، سألته بصوتها الذي تعافى قليلاً:
- ما شاء الله، زي القمر، مين دي يا ابني؟
- أجابها بسؤال وابتسامة: إيه رأيك؟
- تجاهلت سؤاله وأعادت سؤالها: مين دي؟
- اتسعت ابتسامته وهو يجيب: هذه دعوتك لي.
وعلى الرغم من إجابته غير المباشرة إلا أن ذكاء الشقيقات الفطري اصطاد المعنى، فقفزن حول الأم ورحن يتخطفن الصورة وهن يتغامزن، ويبتسمن: ( الله، بيضاء وزي القمر، ضحكتها حلوة، فستانها جميل، شعرها ناعم، هاتي الصورة، استني شوية، خليني أشوف عينيها، لا..لا.. شوفي شعرها، خلاص كفاية عليك كده إديني أشوفها دقيقة واحدة، تعرفي تشبه فاتن حمامة، لا فاتن مين، دي شبه نادية لطفي.. لا لا... شبه نجلاء فتحي، طيب عايزين الحق دي أجمل من التلاتة..).
كان يسمع الصراع والتعليقات على الصورة وهو يراقب حبل المشنقة الذي اختفى في لحظات في عيون شقيقاته، رقص قلبه، وسرت في جسده قشعريرة زهو وغرور لأنه استطاع في هذه اللحظات أن يقلب كيان القضاة المتربصين به، وها هم قضاته المتجهمون يتحوطون حول صورة المرأة التي يحب، المرأة التي يحمل ابتسامتها في قلبه قبل جيبه• ضحكت الأم وغطت فمها بكف يدها كعادتها حين تتسع ابتسامة الفرح على وجهها، شعر هو بأنه أنقذ نفسه قبل أن ينقذها من الحسرة وارتفاع الضغط والخوف عليه، وحين هدأت ضجة تبادل الصورة عادت لتستقر في يد الأم التي لم تنس سؤالها:
- مين دي يا غالي؟
حاول أن يخفى خجله القروي من الحديث عن امرأة أمام أمه وأخواته، وهمس مبتسماً وفي عينيه خيط من شعاع شمس صيفية: اسمها (جميلة)، التقطت الأخت الصغيرة المشاكسة ما قاله وعلقت: (وكمان اسمها حلو..)، ولم تجد الأم حلاً سوى أن تهز الصورة بيدها أمام وجهه، كانت هزة مقصودة تذكره بسؤالها الذي لم يجب عنه حتى اللحظة• خاف أن يذهب الهدوء الذي صنعه بذكاء، وأن تعود الحسرة إلى قلب الأم، سحب ذراعه اليمنى من حول كتفيها، وأمسك بيدها وهو يشعر داخله بأن إجابته ستقدم لها وصفة علاج سحرية، حاول أن يغير طريقته في الكلام، أن يكون بسيطاً ومباشراً، فلم يستطع إلا أن يتحدث كما صار يتحدث منذ اختطفته جنيات السفر والكتابة، وأبعدته عن لهجة البيت والعائلة:
- هذه جميلة، دعوتك الطيبة لي في صلواتك، امرأة صالحتني على العالم، وأهدتني جواز مرور إلى الحياة ثانية بعد أن كنت قد نفضت يدي من أي أمل أو حلم، هل تصدقين يا أماه أنني أرى فيها طيبتك وحنانك؟ هل تصدقين أنها تذكرني بك حين تحيطني بعينيها، وتدفع عني الوحدة واليأس وكأنني غايتها ورسالتها، أنا حبيبها وصديقها وسيد قلبها، وهي حبيبتي وصديقتي وسيدة قلبي، إذا فكرت في شيء فعلته قبل أن أجهر به، وإذا حلمت بحلم حققته قبل أن تغيب شمس اليوم، هذه جميلة يا أماه، فلا تبخلي علي وعليها بالدعاء والحب• قال الابن البكر ما قاله دفعة واحدة.. كأنما كان يخاف أن يموت قبل أن يدلي باعترافه الأخير.. كأنما أراد ألا يفقد جرأته التي استمدها من ابتسامة المرأة الجميلة في الصورة، وحين توقف كانت الغرفة التي تنام فيها الأم قد امتلأت بصمت غريب، صمت هو مزيج من دهشة وفرح طاغ في قلوب الشقيقات، صمت جميل لم يقطعه سوى حركة مفاجئة من يد الأم حين ارتفعت بالصورة إلى مستوى الفم وطبعت عليها قبلة تركت أثراً ورائحة على جبهة جميلة• - ربنا يسعدك قادر يا كريم، ربنا يشرح قلبها زي ما شرحت قلبي، ويسعدها زي ما أسعدتك يا ابني، قادر يا كريم.
ولم تترك الصورة حين رفعت يديها بالدعاء وعيناها مملوءتان بالعرفان لامرأة لم ترها إلا مبتسمة في صورة، لكن يكفي أنها امرأة رعت ابنها البكر في وحدته، وأحاطته بالحنان، وكانت قبلة الأم على الصورة مفتتحاً لقبلات متتالية من الشقيقات، دارت الصورة بينهن كما كانت تدور صورته حين يبعث بها في رسالة من غربته، الشغف ذاته، والشوق ذاته، والحب الذي لا يعرف الشروط والأسباب، حب عميق وصادق بلا مقابل، وها هي جميلة بين أيديهن وفي عيونهن وقلوبهن تنال الحصة نفسها من الحب، ها هي المرأة الوحيدة التي لا يغار من أن تشاركه قلوب أمه وشقيقاته.
- متى سنراها؟ سؤال مباغت لا يأتي إلا من الشقيقة الصغيرة المشاكسة، الشقيقة التي درست حتى الشهادة الإعدادية، وحين فكت الخط، فكت عقدة الصمت، وأصبحت قدرتها على القراءة ميزة بين شقيقاتها، ميزة تجعلها تسأل على الرغم من اللكمات التي تنالها على كتفها وفي جنبيها من الجالسات حولها.
- متى سنراها؟
تكرار السؤال فرض عليه الإجابة، وخوفه من ضياع انتصاره على القضاة الذين كانوا يتربصون به، جعله يجيب من دون أن يحدد موعداً•• قال وهو ينظر إلى الصورة التي استقرت في يده أخيراً: - بعد أن تنهي دراستها سوف أتقدم لخطبتها•• ولم يشأ أن يدخل في تفاصيل ربما تعيد القلق ثانية إلى الأم المريضة، لم يشأ أن يقول متى وأين، كانت غايته أن يطمئنها إلى أن قلبه لم يعد وحيداً، وأن هناك من يسأل عنه، ومن يملأ وقته، ومن يجبره على أن يأكل وأن ينام مبكراً، وأن يحلم لينقذ روحه من اليأس والعبث، وحتى يتخلص من مشاكسات شقيقته الصغرى، أمسك بهاتفه وضغط على بضعة أرقام، وأشرقت عيناه بابتسامة حاول أن يضبطها أمام عيون تتربص بكل حركاته وسكناته، وآذان لم تسمع سوى صوت واحد هو صوته.
- آلوو.. أخبارك إيه؟ وإنت كمان.. لا تقلقي، أمامي أسبوع آخر.. الحمد لله صحتها أحسن من الأول.. لحظة.. تكلمي معها .. لا .. لا تحرجي، لحظة.. ومد يده بالهاتف إلى أمه، أمسكت به في ارتباك وخجل لم يغادرها على الرغم من عمرها ومرضها، تحدثت لثوان قليلة، ثوان كان يعلم أن جميلة فيها على الطرف الآخر غارقة في خجلها الجميل، وكان يراها بعين قلبه وقد تورد خداها بالحمرة، وكان يخمن نبرة صوتها ورقته، وكان يثق بأن ابتسامتها تضيء وجهها وتملأ بياض عينيها ببريق ساحر، إنه يعرفها ويحفظها عن ظهر قلب، وهو الذي يناديها دائماً:
- (يا جميلة الخلْق والخُلق).
أعادت الأم الهاتف إليه فودع جميلته بكلمات غامضة قصد ألا يفهمها أحد سواهما وخصوصاً هذه الشقيقة المشاكسة، وحين أنهى المكالمة بهمسات خافتة، وضع الهاتف في جيبه، وأدار رأسه ناحية الأم ليسألها عن انطباعاتها، لكن الأم كانت قد دخلت في النعاس، ولو كان يعلم من قبل أن صوت حبيبته أكثر تأثيراً من الحبوب المنومة، لأعفى أمه من أرق الليالي الطويلة بمكالمات كهذه، وقف بهدوء وشد الغطاء عليها، وهو يرقب ابتسامة خافتة على شفتيها، ابتسامة طمأنينة، ابتسامة لم يرها على وجه أمه منذ أن مات أبوه، وتيبست ملامح الحزن على وجهها كإشارة على الفقيد الذي لا يعوضه أحد، وها هي اليوم تنام كطفلة بعمق وفي لحظات خاطفة، تنام بابتسامة لها صفة المرأة التي يحب، ابتسامة جميلة، وهي الابتسامة ذاتها التي حملها معه إلى سريره، ورآها في عيون شقيقاته وهن يتمنين له أحلاماً سعيدة، إلا واحدة منهن رفضت أن تتمنى له كالأخريات أحلاماً سعيدة، إنها الصغيرة المشاكسة التي رتبت سريره وهي تقول له بحب ولؤم طيب: - تصبح على خير .. وأحلاماً (جميلة).